"معادن الناس"

"معادن الناس"
غادر أحمد  مدينته متجهاً إلى عاصمة دولة عربية حيثُ كان مسموحاً بالسفر إليها دون تأشيرة؛ وحين كانت الحافلة تشق طريقها إلى قلب المدينة كانت الخواطر والأحلام تداعب أفكاره؛ كان يطمح مثل كثيرٍ من الشباب في الحصول على عمل يجني من وراءه مبلغاً من المال يكون عوناً له في مشوار حياته.
وكان هو  يمتلك من القدرات مايمكنه من العمل في أكثر من مجال؛ فهو بجانب قدرته على التدريس يمكنه ايضاً العمل كمهندس مساحة لأنه يتقنها؛ ولكن ومع مرور الأيام أدرك أن الأمر ليس ميسوراً.
نزل أحمد في فندق بوسط المدينة وتفاجأ أن من نزلائه جاراً له من مدينته حيثُ اقترح عليه أن يعطيه مامعه من المال ليشاركه في التجارة، فرح أحمد بالفكرة وبالفعل أعطاه مامعه من المال؛ ولكن جاره سافر لتركيا ولم يعد.
جلس في استراحة الفندق يفكر ماذا يصنع؟،ولمن يلجأ ليخفف عنه هذه الصدمة.؟
كان له كثير من الأقارب يعملون في نفس المدينة ولكن منعته عزة نفسه أن يذهب لأحدهم؛ وبينما كان مستغرقاً في أفكاره إذ بشاب من نزلاء الفندق يقطع عليه أفكاره وقال يخاطبه: مالك ياأحمد!  كأنك تحمل هموم الدنيا فوق رأسك؟
نظر إليه أحمد مندهشاً فقال وهو يغالب عبرات أثرت على صوته: لاشئ ياصديقي ..كنتُ أفكر كيف السبيل للحصول على عمل هنا؛ فأنت وأنا وكثيرٌ مثلنا ماجئنا إلا لتحقيق هذا الهدف ؛ ابتسم فؤاد وأردف قائلاً في حنان: أصدقني القول يااخي؛ هل نفدت نقودك وتحتاج إلى نقود؟
وقع السؤال على نفسه وقعاً شديداً فتسللت دمعة عجز عن كتمانها ولم يتكلم ؛ فأخرج فؤاد على الفور مبلغاً من المال دسه في يده وقال مداعباً: حين تعمل سوف أخصمه من راتبك.
كان الموقف شديداً على نفسه فضمه في حرارة وهو يغالب عبرات تئن في عينيه،بينما راح فؤاد يربت على كتفه في حنان وهو يطمئنهُ أن العسر لابد أن يعقبه يسر .
في مساء اليوم اخبره رفيق حجرته (جمال) بأنه سيغادر الفندق في الصباح لأنه وجد عملاً بالحي الصناعي واقترح  عليه أن يذهب معه لأن صاحب العمل سيوفر له سكناً جماعياً وهي فرصةٌ له وكذلك ربما وجد عملاً هناك؛ فرح أحمد بالعرض وأسرع يجهز أغراضه ، وفي الصباح انطلق الإثنان إلى الحي الصناعي؛ وحين ضمهما السكن اقترح جمال عليه أن يشتري بجزء من ماله تُرمساً وصينية مع بعض الاكواب الزجاجية بهدف أن يقوم أحمد ببيع الشاي للعمال؛ وافق على الفور لحاجته للنقود من ناحية وليسدد ماعليه لفؤاد من ناحية. 
استيقظ  من نومه قبيل الفجر نشيطاً وراح يعد مايلزمه في مهنته الجديدة ؛ ومع النسمات الأولى للصباح كان يدور على عمال الورش حاملاً الصينية وعليها التُرمس والاكواب منادياً: شاي..شاي؛ ومع نهاية اليوم وجد نفسه وقد ربح مبلغاً لابأس به فشجعه ذلك على الإستمرار حتى يجد عملاً بمؤهله .
وبعد مضي بضعة أيام استطاع فيها توفير مبلغ لابأس به من المال فأسرع للفندق كي يعطي فؤاد مااقترضه منه ؛وأثناء وجوده بالفندق جاء أحد القادمين من مدينته فأعطاه رسالة وشريط مسجل من أسرته.
قرأ أحمد الرسالة واستمع لشريط التسجيل فأدرك أن أسرته قد علمت ماألم به وجاء صوت أمه حزيناً يلقي عليه اللوم لعدم اتصاله بأحد من أقربائه وهم كُثُر وكان مما قالته له: لما صنعت بنفسك كل هذا الألم  وعندك صديق طفولتك وابن خالتك (عبده)؛ أذهب إليه فبالتأكيد لن يتركك وحدك وسيسعى لإيجاد فرصة عمل طيبة لك، وإن ضاقت بك السبل عد لمدينتك وأهلك وأحبابك فقد توفرت فرص عمل كثيرة بعد سفرك.
استمع لحديث أمه الشاجي  فشعر إذ ذاك بحنين لموطن رأسه ولكنه كان يخشى أن يعود لوطنه خالي الوفاض فقرر الذهاب لإبن خالته(عبده)  واستقل على الفور الحافلة المتجهة لمكان ابن خالته؛وحين جمعهما اللقاء راح كلٌ منهما يبث للآخر شوقه وماحدث لكليهما في مدينة الغربة؛ وقد أبدى عبده تأثره الشديد بماحدث لصديقه وابن خالته ووعده بتوفير عمل له كما طلب منه بيع الأدوات الخاصة ببيع الشاي والإقامة معه.
انطلق أحمد إلى جمال يخبره بما جرى بينه وبين ابن خالته فدعا له بالتوفيق والخير.
مضي يوم واثنان وهو مقيم في ضيافة عبده وفشل في توفير عمل له؛ وبدأ  الملل يتسلل شيئاً فشيئاً إلى صدره وراحت نفسه تحدثه؛ إنه بالتأكيد لم يأتِ ليكون عبئاً على أحد، فهل ترى تمضي أيامه هكذا دون عمل؛ وذات صباح وجد صاحب المكان وقد وقف على باب الحجرة فقال مخاطباً إياه: هل تظن يامصري أن هذا المكان"سبيل" يبيت فيه من شاء؛ لقد صبرتُ عليك اسبوعاًكاملاً فابحث لك عن مكان آخر غير هذا؛ هنا مكان عمل يامصري وليس فندقاً!
عقدت المفاجأة لسان أحمد فلم يدرِ ماذا يقول،وراح يتطلع في وجوم لصاحب العمل تارة ولابن خالته تارة ولكن عبده لم يحرك ساكناً ولم ينطق بكلمة؛ وهنا أُسقط في يده وأحس بالكلمات وقد يبست على شفتيه فرد عليه بصعوبة بالغة: آسف سيدي!..معك كل الحق وأعدك ألا ترى وجهي بعد اليوم.
مضى أحمد يتعثر في خطواته وراحت قدماه ترسم خطاها الحزين على الطريق إلى رفيقه جمال؛ شعر بالألم يعتصر قلبه ولاح كل شئً أمامه يتمايل حزناًمن خلال عَبرات لم تقو عيناهُ على حبسها؛وحانت منه إلتفاتة يدفعها أملٌ أن يجد عبده يركض خلفه معتذراً عما حدث ولكن هيهات
 ! فقد ذهبت آماله أدراج الرياح؛ ووجد نفسه وقد ارتسمت صورتان في خياله إحداهما لفؤاد والذي لم يتعرف عليه سوى في بلد الغربة،والأخرى لعبده ابن خالته وصديق طفولته فوجد نفسه يردد في اسى:ألا شكراً لكِ أيتها الغربة فبرغم مافيكِ من آلام إلا أنكِ كشفت لي بحق عن معادن الناس.
بقلم..أحمد سعيد ١١-٥-٢٠١٥
 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"الحبيب الحائر"

"الصف الأخير"