تحليل وتلخيص رواية ميرامار
يعد "نجيب محفوظ" أحد أشهرالمؤلفين في تاريخ مصر الحديث؛ كما أنه أول شخصية عربية تحصل على جائزة "نوبل" في الأدب.
ولد "نجيب محفوظ عام١٩١١بحي "الجمالية" بالقاهرة؛ وهو الحي الذي لعب دورا كبيرا في إلهامه بالكثير من أعماله الأدبية..كان دائما مايشعر بالسعادة في أزقة "خان الخليلي"وفي الشوارع الصغيرة والحواري الضيقة،والتي مازال بها حتى وقتنا الحالي منازل من ذاك الطراز القديم.
في هذا الحي العريق يلتحم القديم بالحديث في مزيج غريب وفريد قدمه أديبنا الكبير في أغلب أعماله إن لم يكن جميعها.
بدأ"نجيب محفوظ"مشواره الأدبي الطويل والذي استمر لأكثر من نصف قرن أثرى خلاله المكتبة المصرية بمايقرب من أربعين رواية وأكثر من مائة قصة قصيرة؛ وتعد مؤلفات هذا الأديب العملاق بمثابة مرآة للحياة الإجتماعية والسياسية في مصر،كما يمكن اعتبارها تدوينا معاصرا للوجود الإنساني.
وتعكس رواياته رؤية المثقفين على اختلاف ميولهم السياسية وتباين أفكارهم.
ومن أهم أعماله "الثلاثية"وغيرها من الروايات والتي أسهمت بشكل كبير في حصوله على جائزة "نوبل" وذلك بماتضمنته من واقعية تميز بها إضافة إلى الشفافية وصدق التعبير.
ويعد"نجيب محفوظ" ملك التعبير الواقعي بلا منازع حيث تدور رواياته بمصر وتظهر فيها سمة متكررة وهي الحارة والتي جعل منها مايوازي العالم بأسره.
وبينما يناقش أديبنا الكبير قضايا أمته ويساهم فيها بفكره ورؤيته إذ وافته المنية في أغسطس عام٢٠٠٦ بعد عمر مفعم بالعطاء ففقدت مصر وفقد العالم معها أديبا فذا ومفكرا من نوع فريد وطراز نادر.
لقد كان ظهور "نجيب محفوظ" في القرن العشرين نقلة مؤثرة في تاريخ الرواية العربية حيث نجح بإقتدار في نقل الرواية من المحلية إلى العالمية وذلك لأنه نجح بالفعل في نقل الواقع المصري كما هو دون محاكاة للغرب ؛ كما جعل من الرواية سجلا لتدوين التاريخ الإجتماعي لمصر الحديثة.
وفي رواية"ميرامار"يظهر لنا بوضوح مدى عشق "نجيب محفوظ" لمدينة الإسكندرية ،تلك المدينة الحالمة الساكنة على ضفاف الأبيض المتوسط؛ فنجده يعرض في هذه الرواية شخصية"زهرة" تلك الفتاة الريفية النازحة من حضن الريف المصري إلى الإسكندرية وكأنه يشير من خلال شخصية "زهرة" إلى مصرنا العظيمة حيث تبدو مصرة على البقاء ساعية للنجاح والتفوق؛ تلاعب بعواطفها الإنتهازي، وتهجم على برائتها الشهواني،لكنها دافعت عن نفسها لايعتريها ضعف أو يأس، بل جذورها ممتدة في باطن الأرض قوية متشعبة.
رفضت ان تخضع للإبتزازالعاطفي حتى قبل وصولها لـ"ميرامار" وذلك حين أبت أن تذعن لزواج قائم على المنفعة الشخصية فهو أشبه مايكون بالمتاجرة بجسدها دون أدنى إعتبار لمشاعرها وقلبها.
حدث ذلك بعد وفاة أبيها تماما كحال مصر بعد وفاة زعيمها"سعدزغلول" والذي وصف بأنه "أبو المصريين"؛ ولقد بدت شخصية"زهرة" ثائرة دوما على كل من يحاول إستغلالها أو النيل منها، كما أنها ثارت ضد إرادة الأجنبي متمثلا في شخص "ماريانا" اليونانية صاحبة بنسيون ميرامار.
تبدأ أحداث قصة "ميرامار" حول محور رئيسي وهو الثورة الإشتراكية في مصر، وقد صور الكاتب نظرة مجموعة من الشخصيات والتي تمثل أنماطاً مختلفة من النسيج الإجتماعي إلى هذا الحدث الجلل.
تلتقي شخصيات الرواية على غير موعد في بنسيون ميرامار
ورغم اختلاف أفكارهم إلا أنهم جاءوا جميعا يدفعهم دافع واحد هو البحث عن الأمان والدفء والإستقرار،هربا من ماضي غير سار وسعيا لطيه بثوب النسيان في هذا المكان الهادئ.
فنجد "عامروجدي"والذي أتى إلى ميرامار ليقضي ماتبقى له من العمر في هدوء وسكينة تساعده في إستعادة ذكريات أيام خلت وولت مدبرة، ثم "زهرة" تلك الفتاة الريفية الثائرة والتي فرت من زواج قهري أرادوا إرغامها عليه من قبل جد قاسي القلب متحجر الفكر لتبحث لها عن عمل تلوذ به من غائلة الجوع وبراثن الفقر، و"طلبة مرزوق" الذي ترك القاهرة بصخبها ميمما وجهه صوب ميرامار ملتمسا فيه السلوى مع عشيقته القديمة ذات العيون الزرقاء"ماريانا" فاراً من شعور الذل والهوان الذي لحق به من جرّاء مصادرة الثورة لأمواله ووضعها تحت الحراسة، أما "حسني علام" فهو ينتمي إلى نفس طبقة "مرزوق" وقد لجأ للبنسيون تاركا طبقته الارستقراطية حاملا بين جنبيه ذلا من نوع آخر تمثل في رفضه كزوج من إحدى أقربائه والتي لم تتورع عن وصفه بأنه شخص غير مثقف وأن المائة فدان التي يملكها باتت في مهب الريح فصدمه بالطبع هذا الشعور الخالي من العاطفة، ثم "منصور باهي" والذي أتى البنسيون متحاشيا ما يمكن أن يتعرض له في القاهرة من اعتقال بسبب إنتمائه للشيوعية؛لذلك رضخ لضغوط أخيه بالإبتعاد عن مصدر الخطر،أما "سرحان البحيري" فقد لجأ إلى البنسيون بحثا عن فرصة تربح وسعيا للبحث عن تجربة حب حقيقي ينسى به مرارة فشل تجربته العاطفية واهية الأسباب في الجامعة؛ وقد وجده بالفعل في شخص "زهرة" وكان يمكن لهذا الحب ان يتوج بالزواج لولا طبيعة سرحان الإنتهازية والتي أفقدته زهرة كما أفقدته أشياء أخرى ثمينة.
وإذا كان البحث عن الأمن والإستقرار فرارا من ماضي غير سار هو النقطة التي تتوحد عندها رغبات تلك الشخصيات المتنافرة فإن هناك ثمة محور تتجاذب نحوه قلوبهم كما تتجاذب الفراشات لضوء النار الا وهو "زهرة" ذلك السحر الريفي الذي يثير إهتمام الجميع بشخصيتها الجذابة، وجمالها الريفي الأخاذ،وانوثتها الناضجة..غير ان "سرحان البحيري" هو وحده الذي يفوز بحبها ويستولي على قلبها دون "حسني علام" الذي حاول بدافع من نزواته ان يتخذ منها خليلة، ودون "منصور باهي" الذي عرض عليهاالزواج في لحظة من لحظات اليأس لتكون له الملاذ والخلاص من ضعفٍ بشري يعيش بين جوانحه أفقده إيمانه بمبادئه كما أفقده حبيبته "درية"، وأخيرا دون "محمودأبوالعباس" بائع الصحف الذي اراد ان يرتبط بـ"زهرة" لالتشاركه حياته بحلوها ومُرّها، بل ليجعل منها امة تعيش تحت سطوته ورهن إشارته كما فهمت "زهرة" ذلك منه حين سمعته يتكلم يوما عن المرأة مشبها إياها بالحذاء وهو مارفضته شكلا وموضوعا؛ ولكن هل كان لفوز سرحان بقلب زهرة من دونهم مايقوّم إعوجاج شخصيته الإنتهازية "الميكيافيلية" ويدفعه إلى الجادة؟
بالطبع لا! إذ انه سرعان ماغدر بحبها تماما كما غدر بالثورة التي استفاد كثيرا من معطياتها..فـ زهرة من وجهة نظره- القائمة على المنفعة الشخصية -ترتدي ثوب الفقر والجهل وبالتالي فهي لاتتسع لطموحاته العريضة وأطماعه اللا محدودة ،لذا سارع في وقاحة ليقيم علاقة مع "علية" مدرسة زهرة لفوائد وأطماع يأمل أن يحققها من وراء هذه الصفقة؛ بيد أن زواجه من "علية" يفشل كما تفشل كذلك عملية تهريب شاحنة الغزل مما دفع به إلى الإنتحار.
لم يكن غدر سرحان بـ زهرة هو الوحيد في تلك الرواية؛ إذ أن ثمة غدر من نوع آخر وهو غدر" منصور باهي" بحبه القديم دريّة؛ فحين غاب زوجها خلف القضبان من أجل مبادئ تخلى عنها منصور، سارع الأخير بالتردد عليها في بيتها بحجة الأخذ بيدها من وحشة الوحدة، ونسيَ منصور صديقه كما نسيت دريّة زوجها وراحا يغترفان معاًمن منهل حب قديم تولَّد من جديد كما توهما ،وحين علم الزوج بما فعله صديقه وزوجته لم يتردد في طلاقها لتصبح دريّة دون عوائق تعوق ارتباطها بحبيبها فذهبت مسرعة لتبشره بحريتها.. غير أن منصور أولاها ظهره في تصرف غريب مما أصابها بالندم واليأس ؛وكأن أديبنا أراد من خلال هذا المشهد أن يبعث برسالة نصح لكل دريّة من بنات حواء بألا يندفعن مطلقا خلف عواطف وهمية غير محمودة العواقب.
لكن ثمة فارق بين غدر سرحان وغدر منصور،فالأول دافعه انتهازي..أما الآخر فدافعه نفسي، وقد رأينا منصور بعد ذلك وهو يركل بقدميه سرحان البحيري بكل قوته يمنة ويسرة وكأنه يركل هذا الغدر البغيض من كل غادر ونسي في غمار ذلك أن الذي يركله قد أمسى جثة هامدة.
أما "زهرة" صاحبة الإرادة القوية والعزيمة الجبارة فتعلن بعد فشل تجربتها مع سرحان عن قرارها بالاستمرار على نفس الدرب الذي اختارته لنفسها، درب الكرامة والعمل متسلحة بسلاح العلم، متشحة بوشاح الأمل والثقة.
نلاحظ من خلال متابعتنا لأحداث الرواية أن أديبنا الكبير يعطي للمرأة مكانة خاصة لذا فهو يذكرها دوما في رواياته، فنجد "زهرة" وهي من أهم الشخصيات المحورية في القصة يحاول من خلالها أن يهمس في أذن التاريخ مشيرا إلى علاقة الشرق بالغرب في ذلك الوقت؛فعلى الرغم من كون "زهرة" ريفية المنبت تحيا حياة شرقية خالصة إلا أنها رفضت أن ترتبط بريفي مثلها وآثرت عليه فيما بعد رجلاً مدنياً معاصراً،وكأن أديبنا قد أراد من خلال ذلك أن يشير إلى نوع من التلامس بين الحضارات لاغنى للأطراف عنه، كما نلاحظ أبعاد ذلك الحوار الذي دار بين بعض شخصياتها حول تحول زهرة إلى فتاة مدنية عصرية سواء ظهرت ملامح ذلك في شكل ملبسها أو في طريقتها في التعامل،لكنهم يرون ان الفتاة الريفية تتجلى فيها البراءة والجمال،وهذا يعني أنه مهما تطورت مصر وسايرت في خطاها ركب التقدم إلا أنه في الوقت ذاته لابد من المحافظة على جمالها الطبيعي والمتمثل في تقاليد شعبها وعاداتهم؛وهذا بالطبع يجعل من المرأة المصرية شخصية قوية ذات مكانة مرموقة.
ولقد نجح اديبنا من خلال أحداث الروايةأن يصبغ القارئ بخياله الأدبي الذي جعله يشعر وكأنه احد أبطالها؛ كما نجح أيضاً في وصف جو الإسكندرية خلال فصل الشتاءبرياحها وأمطارهاالغزيرة وسمائها المكتظة بالسحب،ومدى تعلق أبطال روايته بهذا الجو ومدى تأثيره في ترجمة مايمور في صدورهم من مشاعر متباينة.
فهذا عامر وجدي يصف الجو بقوله:" قطر الندى،ونفثة السحابة البيضاء،ومهبط الشعاع المغسول بماء السماء،وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع"..وهو في وصفه هذا يعكس بلاشك حالة الرضا والطمأنينة التي ملأت جوانحه حين عاد من جديد إلى موطن ذكرياته ومسقط رأسه.
أما حسني علام فيكشف لنا عن حالته النفسية المتخبطة الناقمة من خلال وصفه للبحر بقوله:" وجه البحر أسود محتقن بزرقة ،يتميّز غيظاً،يكظم غيظه، تتطلاطم أمواجه في إختناق،يغلي بغضبٍ أبدي لامتنفس له"
فيتبين لنا من خلال هذا الوصف مدى غضبه وسخطه من تلك الطبقة والتي سبق ولفظته ساخرةً منه.
تعتمد الرواية في أحداثها المتتالية على أن القصة تحكي نفسها بنفسها حيث تختفي فيها شخصية المؤلف فتتحرك الشخصيات والاحداث أمامنا وكأنها تنبض بالحياة
وفي المجمل كتب "نجيب محفوظ"رواية رائعة تتجلى فيها التشبيهات وتتراقص فيها المعاني فنجح من خلال هذا العمل الأدبي في وصف حال مصر في وقت زمني محدد داخل بنسيون نزلاؤه عدد محدود من الشخصيات لكنه في الوقت ذاته مثّل معظم أطياف الشعب المصري.
"ميرامار" ليست رواية رومانسية تدور أحداثها حول علاقة عاطفية بين إثنين لكنها تبدو كذلك في وصف مدينة الإسكندرية وكذا في وصف جمال "زهرة"، وهي قصة درامية في أحداثها من خلال التعرف على مشاكل أبطالها الذين فقد معظمهم شيئاً ثميناً سواء كان هذا الشئ حباً او مالاً او مكانة
إجتماعية؛ فكل منهم فقد شيئاً عزيزاً على نفسه فجاء إلى ميرامار ناشداً تعويض مافقد أو على الأقل ليتعلم كيف يعيش بدونه، وهي كذلك قصة سياسية تحكي احداث مابعدالثورة حيث كانت مصر مقسّمة تتنازعها الأهواء مفعمة برياح التغيير،ولعلنا من خلال التعرف على حياة الأبطال نتذوق نوعاً ما طعم حياة المصريين وصورة مصر في ذلك الوقت ليكون ذلك درساً لنا نتعلم من خلاله كيف نتعامل مع أحداث مماثلة.
إنني في الختام لايسعني إلا أن أسجل إعجابي الشديد بطريقة تناول أديبنا الكبير لأحداث الرواية، ومدى تمكنّه من خلق لغة ومعاني مختلفة لكلّ شخص من شخصيات الرواية؛ ولعل الأجمل هو ذلك التصنيف الرائع لكل التوجهات الفكرية والسياسية في مصر خلال تلك الفترة وطريقة تأثيرها في المجتمع المصري؛ وتظهر لنا رؤية أديبنا الدينية من خلال شخصية"عامر وجدي"حيث عبّر عنه في البداية بالصحفي العجوزالذي ذهب إلى بنسيون ميرامار ناشداً فيه الراحةو الهدوء أخريات عمره،ومع مرور الأحداث ندرك كنه هذا الرجل
عن قرب ؛ فهو المثقف المصري الوسطي الذي إستمد فكره الديني من خلال دراسته بالأزهر الشريف بما يحمله هذا الصرح من عراقة تاريخية ووسطية فكرية؛ ثم رأينا كيف اصطدم "عامروجدي"مع نوع من المتشددين حين طلب منه يد كريمته فما كان من هذا المتشدد إلا أن ألقى على مسامعه
ماجعله يشعر في قرارة نفسه أنّه زنديق ضال.
إنه بلا شك المحور الأهم في معظم أعمال "نجيب محفوظ"
ولعله يكون المحور الأهم في وقتنا الراهن؛ إذ ليس من العدل والإنصاف ان نكفّر ونقتل كلَّ من يخالفنا الرأي بل علينا أن نحيا جنباً إلى جنب يسعنا وطن واحد مهما تباينت أفكارنا واختلفت عقائدنا ..وليكن شعارنا دوما فيما بيننا
" رأيي صواب يحتمل الخطأ..ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب"
بحث وتحليل.. أحمدسعيد
وذلك بناء على طلب تلميذة لي لتقدمه لمن أرادت،وارجو أن اكون قد وفقت،ولايفهم القارئ أنني اوافق الأديب في كل ماذكرت ولكنّها الضرورة الأدبية والأمانة في النقل
بحث وترتيب..أحمد سعيد
تعليقات
إرسال تعليق