"بحث في القصة القصيرة"
بحث في القصة القصيرة..بقلم/أحمدسعيد.. القصة القصيرة لون من ألوان الأدب ولها خصائص وعناصر تمتاز بها؛وهي كما عرفها"إلبرت": عبارة عن سرد نثري موجز يعتمد على خيال المؤلف برغم مايعتمد عليه الخيال من أرض الواقع؛ ومن هذا التعريف ندرك أن الخيال وحده غير كافي لإنشاء قصة؛ إذ لابد من ملكة تركيبية تحبك الأحداث وتنظم تتابعها، وبين أيدينا مجموعة قصصية للكاتب الشهير"عبد الوهاب مطاوع" بعنوان "وقت للسعادة..ووقت للبكاء!.."..ولعل لإختياره لهذا العنوان دلالته إذ ان حياتنا لاتخلو غالبا من النقيضين، ففي قصته "نوم الظهيرة" نلمس ذلك جيدا،فوقت السعادة للزوج يتمثل في نوم الظهيرة وتناول الطعام ولقاء الأصدقاء..وهو نفسه بالنسبة للزوجة وقت البكاء؛فلقد تزوجت به على غير رغبتها وبضغط من أبيها فلم تسعد لحظة بهذا الزواج ولابالزوج الذي لم يتعلم كيف يحترم مشاعرها بل تركها فريسة الوقوع أمام أي إغراء خارجي؛. وتمثل هذا الإغراء في مديرها الذي تعامل معها برقة لم تعهدها في زوجهافوجدت فيه بلسماً لجراحها المكلومة، وعبثاً حاولت الطلاق دون جدوى حتى أسرتها أولتها ظهرها,وحين أوشكت على الوقوع في براثن الضعف البشري تنامى إلى سمعها حديث دار بين طفليها تبينت من خلاله مدى حيرتهما وقلقهما إذا ما انفصلت أمهما عن أبيهما وكان في هذا الحديث البرئ ماجعلها تفيق من نشوتها وتثوب إلى رشدها معتصمة بعفتها وحبها لطفليها.أما قصته"الحب أعلى مراحل الإستعمار"، ففيها يصور الكاتب حواراً دار بين ثلاثة أسر حول دور الزواج في قتل الإبداع لدى الرجل والمرأة،وكان رأي الكاتب أن قدرة كل طرف على فهم شخصية الآخر وطبيعة عمله يكون دافعاً لبذل المزيد من الجهد ومن ثَمَّ الإبداع؛ وتواردت على ذهنه أفكار كتاب قرأه عن الفكر الماركسي يرى مؤلفه أن تطور الرأسمالية يؤدي إلى تراكم رؤوس الأموال والتي تحتاج إلى أسواق جديدة للحصول على المواد الخام وتصريف منتجاتها وكان ذلك أحد أسباب إستعمار الغرب لدول إفريقيا، ووجد نفسه يربط بين هذا القانون وبين تراكم مشاعر الحب لدى الرجل والمرأة وخلص إلى أن الحب هو أعلى مراحل الإستعمار؛ فكما أن الإستعمار يسلب إرادة الشعوب رغما عنها نجد أن القلوب تسلم إرادتها أو جزءا منها طواعية لمن تحب فتختفي حينئذ الإرادة المستقلة لكل طرف وتحل بدلا منها الإرادة المشتركة.وقصة"صباح الخير" هي قصة امرأه تفتعل المشاكل مع زوجها فقط لتستثيره،فهي لاتدعه يحتسي شاي الصباح في هدوء؛بل تجدها تذكره بابنهما الذي أهمل مذاكرته بسبب سلبية الأب ،وإبنتهما التي ترفض الخطاب بسبب تدليل الأب ،..،..وهكذا يجد الزوج نفسه محاصراً بالمشاكل قبل الذهاب إلى عمله،وتبلغ معه قمة الإثارة حين تطالبه بالطلاق هكذا ودون مقدمات ولأن الزوج عاقل وله خبرة في التعامل معها فلايجد ابلغ من: صباح الخير يامديحة! قبل الإنصراف إلى عمله،ثم تأتي"جمعية ضرب الزوجات" لتجسد لنا خطأ بعض الأزواج في معالجة مشاكلهم البسيطة؛فبدلا من أن يركزوا في حل المشكلة نجد أن كلاً منهم يجتهد في إستعادة مآسيه الماضية مع الآخر فيتحول في لحظة الخلاف البسيط إلى مشكلة ضخمة تستعصي على الحل؛ وهنا يقدم الكاتب بعض نصائحه للأزواج عسى ان تكون عوناً لهم في مشوار حياتهم والذي لايخلو عادة من المشاكل.وقصة"ولكننا لانتعلم أبدا" تدور حول الحكمة المشهورة: لو علمتم الغيب لاخترتم الواقع، وساق الكاتب العديد من الأمثلة لتأكيد هذا المعنى ومنها قصة زواج الملك "فاروق" بالأميرة"ناريمان" مضحية في سبيل ذلك بخطيبها الشاب المكافح ثم مالبثت الثورة ان أطاحت بـ"فاروق" ونفته خارج البلاد وبقيت"ناريمان" بمصر حيث تزوجت بطبيب من الطبقة الوسطى، وأما خطيبها السابق فقد استقال من وظيفته وشق طريقه حتى نال درجة الدكتوراه في القانون الدولي وظل نجمه في صعود حتى شغل منصب وزير وهكذا يبرهن لنا الكاتب صدق الحكمة المشهورة: لو علمتم الغيب لاخترتم الواقع .، وهانحن أمام قصة بعنوان الكتاب"وقت للسعادة...ووقت للبكاء!" شرح لنا الكاتب من خلالها قيمة الدموع في تنفيس الألم المكتوم وتمثل في ذلك قول ابن الرومي: ماخلق الله الدمعَ لامرئٍ عبثا... الله أدرى بلوعة الحزنِ،وهذا شاعرنا" نزار قباني" يبكي زوجته وحبيبته "بلقيس" في قصيدة رائعة تنزف دما ولوعة؛ وقد قال الشاعر الإنجليزي"شيللر": علمتنا الأحزان نظم القصيد فأهدينا الناس في أنغام الشعر ماتلقيناه من ضربات الألم والشقاء.و في قصته الحزينة"اكتب اسمك ياحبيبي" تتجلى روائع العاطفة في قصة قلبين وحدهما الحب رغم الموانع السياسية بين قطريهما والتي حالت دون ارتباطهما ؛وبلغ جنون الفتى مداه حين أسرف في الشراب وصمم أن يكتب إسمها على ذراعه بسيجاره المشتعل؛ ويتساءل الكاتب وقد تذكرهما بعد سنوات!ترى هل صمد حبهما للنهاية وتوجاه بالزواج أم جرف به قانون الغاب فيما جرف من موانع وأنظمة، وهل لاتزال آثار الإسم محفورة أم تجددت الخلايا فمحت إسمها!؟وننتقل إلى"باب المصعد" لنتعلم كيف يصل الغرور بصاحبه إلى اللامعقول في بعض الأحيان،فبطلنا شاب رياضي وسيم لاتراه انثى إلا أسر قلبها ويمضي هو غير عابئ بهن حتى أسرت قلبه زميلة له في العمل ليس فيها مايلفت نظر الشباب غير أنها حازت ذكاءً أنثوي قرأت به أغوار نفسه فتعمدت تجاهله وشيئا فشيئا انجذب إليها حتى وقع في حبها فذاق على يديها من الألم والذل ماأذاقه لكثيرات تمنين الإرتباط به.،وينقلنا الكاتب إلى "ضحيت بغرامي" ليرسم لنا صورة تتكرر في حياتنا حين نرى صرح الغرام يتهاوى في لحظة أمام سلطان المادة ومغرياتها فهذا طبيب شاب ربطه بزميلته قصة حب امتدت لست سنوات ولكنها تناست كل ذلك حين تقدم لها نجل مقاول ثري لم يحصل على الثانوية وطمعت ان يحقق لها أحلامها في العيادة المجهزة والشقة والسيارة لكنها بعد سنوات تعترف انها أجرمت في حق نفسها قبل ان تجرم في حق حبيبها وحق الوفاء والقيم الإنسانية النبيلة. وفي "نسيان الشقاء" يشرح لنا الكاتب ومن خلال تجارب الآخرين كيف نتغلب على أحزاننا؛فبينما يرى البعض ومنهم"برناردشو" ان ذلك يكون من خلال محاولة الإنسان أن يشغل نفسه،يرى الكاتب ومن نحا نحوه أن الحب يرطب لهيب الأحزان ويخفف منها،وأن الحياة هزائم وانتصارات، أوقات سعيدة وأخرى تعيسة فقط علينا أن نتعلم كيف نرضى في الحالتين.وقصة"النصف الصحيح" ترسم لنا صورة من جمال الحياة حين يجد المرء فيها نصفه الآخر المكمل له فكراً وشعوراً ووجداناً فحينذاك تذوب الفوارق الاجتماعية ويذوب معها كل عائق،وهذا ماحدث بالفعل مع طالب الجامعة الذي تعلق بأستاذته فدفعه ذلك إلى الإجتهاد كي يصبح جديراً بها، وقد كان،ومن فرط العاطفة نسى كل منهما فارق السن بل وكل فارق قبل أن يولد.،ومع قصة "الدموع الحبيسة" تنساب دموعنا ألما لهذا الشاب الذي خدعته وغررت بسلامة طويته تلك الفتاة الجزائرية الغادرة والتي استولت على جميع أمواله لتحيا هي حياتها الخاصة على حساب المسكين ومما خفف عليه ألم الصدمة ذلك الموقف النبيل لأسرتها حيث احتضنته رافضة تصرف إبنتهم المشين بل وتبرأت منها ،ومالبث أن تزوج الشاب من شقيقتها ليكتشف بعد ذلك البون الشاسع بين الشقيقتين،وراح الزوجان يرتشفان معا كأس السعادة ضاربين أروع المثل في تحويل لحظات الألم والشقاء إلى سنوات سعادة ونقاء.وختاما مع أقوى القصص التي ساقها المؤلف تأثيرا ألا وهي قصة"أنف الزوجة" والتي بدأها الكاتب بمشكلة تؤرق معظم الناس وهي مشكلة الوهم وقد تمثل ذلك الوهم عند كثير من الزوجات في أن أنوفهنّ لايتناسب حجمها مع الوجه ثم اكتشف الكاتب أن تسعة وتسعين بالمائة من هذه الحالات طبيعية لاتحتاج إلى تجميل ! إنه الوهم إذن !ذلك القاتل البطئ للسعادة والذي يمكن ان يحيل حياة الإنسان إلى عذاب وقلق ولكنّ بطلة قصتنا والتي أثر موقفها في نفسي حتى ندت عيناي لم يكن الوهم هو الذي يؤرق حياتها ؛بل كان الذي يؤرقها ويقلق مضجعها مزاح زوج لم يدرك بعد حجم الجرح والألم النفسي الذي يسببه لزوجته خاصة بعد ان طلبت منه أكثر من مرة ألا يناديها بهذا النداء البغيض(أم منخار)،لكنه مع الأسف أخبرها أنه يصف شيئا فيها وانه يرتاح لهذا النداء غير عابئ بأثر ذلك على نفسها ممادفع بها أن تراسل كاتب القصة طالبة منه تقديم النصح لزوجها ليكف عن جرحها، وإني لأتعجب حقيقة من تصرف هذا الزوج والذي رزقه الله بنعمة عظيمة تتمثل في زوجة مهندسة حنون لم تدخر وسعاً في إسعاد زوجها وأطفالها كيف طاوعته نفسه ان يتصرف هكذا وهو الطبيب المثقف العالم بأثر الألم النفسي على صحة الإنسان؟!؛ ولكن ماحدث له أبلغ من أي تقريع؛ فعلى غير توقع فارقت المسكينة حياتها منتقلة إلى رحمة خالقها فهناك لاجرح ولااستهزاء بل عدالة مطلقة وصفاء؛ والحق ان هذه القصة أثرت في نفسي أيما تأثير ووجدتني اربط بينها وبين رواية "الشاعر" للشاعر الفرنسي العظيم"إدمون روستان" فبطل روايته "سيرانو دي برجراك" ذلك الفارس المغوار والشاعر الرقيق حال بينه وبين مصارحته بحبه لإبنة عمه"روكسان" إحساسه بأن أنفه كبير جدا وعلى غير المعتاد؛ ولقد ظل طوال الرواية يبثها حبه ولواعج قلبه عبر رسائل يخطها بمداد فؤاده وزفرات صدره ثم يزيّلها بتوقيع خطيبها"كرستيان" فأحبت "روكسان" هذه الشخصية الشاعرية رقيقة الإحساس مفعمة المشاعر في شخص خطيبها وهي تظنه كاتب هذه الرسائل الملتهبة والتي تفيض عذوبة ورقة ولكنها في الواقع كانت تحب دون أن تدري الكاتب الحقيقي للرسائل وهو ابن عمها"سيرانو دي برجراك", ولم تكتشف المسكينة حقيقة الأمر إلا حين احتضاره بين يديها لافظاً أنفاسه الأخيرة وهو يهتف بإسمها، فتباً لك أيها الوهم فكم ذُبِحت على يديك أزهارُ السعادة.وبعد أيها القارئ الكريم فهذه مجموعة من القصص القصيرة انتقيتها من كتاب"وقت للسعادة..ووقت للبكاء" وأرجو أن أكون قد أحسنت الإختيار وكذا التلخيص والتحليل.بقلم.. أحمدسعيد
تعليقات
إرسال تعليق