رسالة إلى أمي

               "رسالة إلى أمي"
إلى حبيبتي..صديقتي..قيثارتي.. إلى أول من خفق لها فؤادي.. إلى من علمتني كيف أكون إنساناً.  إلى أحب الناس..أغلى الناس..كل الناس..إليك ياأمي أخط رسالتي قد تندهش أيها القارئ اللبيب من كوني أخاطبُ شخصاً من العالم الآخر ولكن حتماً سيزول إندهاشك حين تعلم أن هذا الشخص لم يفارقني لحظة؛ بل إنه يعيش في وجداني..وفي قلبي وعقلي....وكيف لا؟!..وهو عندي أغلى الناس ؛هذه الرسالة التي يخطها قلمي الآن كان موعدها منذُ إحدى وعشرين عاماً ولكن الشاعر والأديب لايربطه قانون ولايحول بين إبداعه نظام فحيثما تفاعل قلبه وإحساسه فثم.كانت جماعة تحفيظ القرآن الكريم بالسعودية في حاجة إلى ثلاثين محفظاً لتوزيعهم على مدن المملكة المختلفة لذلك أرسلت وفداً ليعقد إختباراً لاختيار المناسب وكنتُ واحداً من هؤلاء ولقد وفقت بفضل الله في الاختبار ولأنني كنتُ حديث عهدٍ بعرس لذا أشفقت أمي على زوجتي أن اتركها في أول سنة زواج ولكني طمأنتها بأنني سوف أستقدمها لتعيش معي بالمملكةولقد كان فراقي لأمي أشبه بالمستحيل لكوني الإبن الوحيد من الذكور.حان موعد سفري للملكة ومن ثمَّ فراقي لأغلى الناس: أمي الحبيبة؛ اتفقتُ مع أمي أن أتصل من آن لآخر لأطمئنها عن أحوالي؛ ولم تكن الهواتف الأرضية منتشرة في ذلك الحين، ولحسن الحظ كانت لنا جارة لديها هاتف ؛مضت بنا الأيام تزرع في صدورنا أشواك الفراق؛ أنا في غربتي أتجرع كأس مرارتها، وفي أرض الكنانة أمي وزوجتي يترقبان في لهفة أخبار الحبيب الغائب.اتصلتُ للمرة الأولى بهاتف جارتنا وكان النظام أن أترك لها فسحة من الوقت ريثما تعلم أمي أو أحد أفراد أسرتي باتصالي.وهكذا مضت بنا الحياة لانملك من امرنا سوى اتصال هاتفي نرشف من خلاله بعض قطرات السعادة المفقودة، وفي إحدى تلك الاتصالات طلبت أمي شراء بعض الأغراض التي يحتاجون إليها ومن بينها آلة حاسبة لابن شقيقتي؛ وبالفعل أسرعت بعد حصولي على الراتب لشرائها ولا استطيع أن أصف مدى شعور أمي بالسعادة لتصرفي.كنتُ أعمل محفظاً بأحد مساجد مدينة الخرج؛ وكان من بين روادي جندي شرطة أراد أن يكافئ تحفيظي له بأداء عمرة بمكة المكرمة في العشر الاواخر لشهر رمضان؛ وبالفعل تم تجهيز سيارته وانطلقنا.وصلنا لمكة المكرمة يوم 28 رمضان فقمنا على الفور بأداء العمرة وقررنا بعدها المكوث بالحرم حتى صلاة العيد؛ وحين علم أحد أصدقائي بوجودي دعاني لتناول الغذاء بمنزله وعلى الفور لبيت الدعوة، وحين وصلنا للمنزل كان التعب والارهاق قد بلغا مداه معي فأخلدتُ للنوم ريثما تعد الزوجة الطعام، ولقد نمتُ نوماً عميقاً لدرجة أنستني أين أرقد؛ وحينها رأيت رؤيا غريبة وعجيبة؛ رأيتُ أمي ومعها إسلام ابن شقيقتي وكان لايتجاوز ثلاث سنوات فمرت بزوجتي وسلمتها الطفل وانصرفت.صحوت من نومي فزعاً إذ تصورتُ تأويلها على الفور وعلمتُ أن أمي سترحل عن الحياة وستترك لنا حزناً يعيش بيننا؛ حين تصورتُ ذلك اسرعتُ إلى الهاتف لأطمئن على أمي ويا للعجب إذ رأيتها ترد علي وكأنها كانت تترقب مكالمة متوقعة منّي بمناسبة العيد؛ هنأتها وأخبرتها بشرائي للأغراض فدعت لي كثيراً وانصرفنا.مضي من الأيام عشرون شعرتُ خلالها بشوق لأمي وأسرتي فاتصلت ولكن جاء صوت شقيقتي الكبرى بديلاً عن صوت أمي واخبرتني أن أمي مريضة وفي حاجة للدعاء؛ فاستبد بي القلق وقفز تأويل الرؤيا امامي من جديد فعاودتُ الكرة بعد يومين فردت علي شقيقتي مرة اخرى فسألتها عن أمي بلهفة فقالت بصوت حزين: ارتاحت......عقدت الصدمة لساني للحظات فسمعت صوت شقيقتي:احمد.احمد مابك ياأخي..استجمعتُ نفسي المبعثرة وقلتُ لها: لاشئ ثم سلمتُ عليها وانصرفت ؛سرتُ بخطوات ثقيلة ولم استطع حبس عبرات ندت بها عيني وابصرتُ ماحولي يتراقص من خلال شعاع نور باهت أصابه الوهن وشيئاً فشيئاً تحول المشهد حولي للوحة ضبابية متشابكة الصور وعدتُ ياأمي مكسور القلب  ولم تهدأ نفسي إلا بعد أن شاركني بعض الأصدقاء في صلاة الغائب على روحك الطاهرة فقد كان لها فعل السحر على قلبي وبدأت السكينة تطوي حزني وجزعي برداء الرضا والتسليم لقضاء الله وقدره وبدأت مشاعري تجود بأبيات من الشعر تحكي علاقة ابن بأمه الغاليةأمّاهُ بالأمس القريب 
كنتِ  السما  لغايتي جسرَ الحما لغربتي 
صدرَ الحبيبِ للحبيب ثغرَ السحابِ للعليل 
عينَ الطريقِ للضرير طفولتي! هل تذكرين؟ ذكرى تطوفُ باللسان أصغي فأغفو بالحنان  تهدهديني إن بكيت  تعانقيني إن شكوت 
أدنو   بقلبي   تائها
في بحر صمتي تسبحين  أدنو بنفسي حائراً
عن سرِّ ذاتي تفهمين ذاك الذي أخفيتهُ  
من فيض حبّك تسكبين  مضي رحيقُ فرحتي  يروي   زهورَ جنَّتي  ..
عدتُ يا أمي
 لأرض الكنانة موطني وموطن أسرتي وأحبتي؛ واستقبلني أفراد أسرتي بجناحي الحب والحنان والشفقة ولم نلبث إلا قليلا حتى جاءت زوجي من منزل أسرتها وبدأ الجميع يشرح لي وقائع وفاتك ياأغلى الناس؛ قالت زوجتي: كان يوم الخميس 7شوال هو اليوم الأخير لتكمل الوالدة صيام ستة أيامٍ من شوال اتباعاً لسنة الحبيب؛ وكم كانت حريصة على ذلك.مرت أحداث اليوم كباقي الأيام لم يدر بخلدنا لحظة أن الوالدة تحتضر..وحين مضى من الليل ثلثاه سمعنا صوتاً قوياً يوحي بارتطام جسم بالأرض فأسرعنا نحو مصدر الصوت وكان من دورة المياه فنادينا على الوالدة فلم تجب مما دفعنا أن نكسر عليها الباب فوجدناها ملقاة على الارض فقمنا على الفور بنقلها لغرفتها وظللنا إلى جوارها حتى أفاقت وكان أول ماسألت عنه: هل صليت الوتر ام لا..ولقد باءت جميع محاولاتنا لإطعامها بالفشل؛ ومضى الوقتُ بطيئاً متثاقلاً والوالدة صامتة وفجأة اشارت لكوب ماء فصارت تضع فيه يدها وتبلل شفتيها وهي تقول: اللهم هون علي سكرات الموت؛ لقد عقدت الدهشة لساني فلم استطع قول شئ؛ وبدأ جسدها ينتفض وصارت تميل بجسدها يمنة ويسرة ومع آذان صلاة الجمعة نطقت الشهادتين ثم أسلمت روحها الطاهرة لخالقها.هذه ياأمي قصة رحيلك عن دنيانا خطها قلمي لتعلمي قدرك عندي وبأنني ماسلوتك لحظة ..لازالت أفكارك الكبيرة تعيشُ في وجداني لتمدني بالقوة، ولازالت مواقفك الطيبة معي ترسم وتجسد علاقة حب راقية بين أم حنون وابنها الشاعر ؛ فلقد كان تشجيعك لي المستمر على التأليف والكتابة هو الدافع الاكبر لتقديم المزيد..فطيبي نفساً ياأمي الحبيبة  فمثلك كنزٌ ثمين لم نكتشف بعد سوى القليل وأقل القليل من درره.بقلم..ابنك أحمد سعيد 1\7\2022

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تحليل وتلخيص رواية ميرامار

"الحبيب الحائر"

"الصف الأخير"