"الرائحة المميزة"راح صلاح يتابع في شغف قطرات المطر تتهادى خلف نافذته،وأحسّ في هذه اللحظات بحنين يشدّه إلى الماضي؛وتذكّر كيف كان تأثير هذا المشهد على مشاعره في سنوات عمره الأولى حتّى أنه وفي مرّاتٍ كثيرة كان يسارع بالإنطلاق إلى شاطئ البحر ليراقب عن كثب احتضان صفحة البحر لتلك القطرات.كان هذا المشهد يؤثر في نفسه أيما تأثير بل ويأخذ بمجامع قلبه، وشيئاً فشيئاً يتسلل إليه إحساس غامض مُطعّم بالسعادة. كان يشعر بروحه تشف وبمشاعره تتدغدغ ،وربما كان ذلك من تأثير نزعته الشّاعرية والتي كثيراً ما حلَّقت به إلى خيال اللامعقول.وحين ارتقت به الذّكريات إلى أوج الإحساس بها اندفع في شوقٍ ولهفة لتكرار التجربة، وحدّث نفسه متسائلاً :تُرى هل ستعاوده مشاعره القديمة مرّةً أخرى؟!. وهل تُراه سيحلِّق من جديد في خيال اللامعقول؟!.انطلق صلاح إلى الشّاطئ غير عابئ بتساقط الأمطار من حوله، وحين أدركه اللقاء راح يتطلّع في لهفة ٱلى صفحة الماء وهي تستقبل في صخب قطرات المطر ووجد صوتاً داخله يهتف:ربّاه! لقد تبدّل كلُّ شئ !أجل لم يعد للماء زرقته المعهودة، ولم يعد لقطرات المطر رونقها المنشود؛ وتساءل في أسى؟ تُرى ماالّذي طرأ على المشهد من تغيير حتّى تتبدّل مشاعره بهذا الشّكل؟!أتُراه من تأثير الضوضاء أم من تأثير الباعة الجائلين؟!وبينما هو يقلّب أفكاره مشدوداً إلى صفحة الماء وإذ برائحة مميّزة تتسلل شيئاً فشيئاً إلى أنفه، وحينذاك انتبه من شروده..إنّه يحفظ هذه الرّائحة عن ظهر قلب ، بل تكاد تكون هذه الرائحة هي الوحيدة الّتي يلتقطها أنفه من بين مئات الرّوائح المارّة بجواره.أجل..إنه بالفعل يحفظ هذه الرّائحة والّتي طالما شدّته منذُ نعومة أظافره، وراح يتلفّت حوله باحثاً في شغف عن مصدرها وإذ ذاك وجد رجلاً يدفع أمامه عربة بطاطا وقد تصاعد منها الدّخان حاملاً معه تلك الرّائحة المميزة.. فتحرّكت في داخله مشاعر الطفولة رغم تجاوزه العقد الخامس من عمره.سارع صلاح إلى البائع مبدياً رغبته في شراء حبّة بطاطا ليس رغبة في تذوقها بقدر ماهي رغبة في قضاء بعض الوقت بجوار تلك الرّائحة، والّتي طالما ذكّرته بأنّ له أنفاً يستطيع من خلاله تمييز ولو فقط رائحة شواء البطاطا.وإذ ذاك انطلق خياله محلّقاً إلى حيث مرتع صباه..إلى سنواته الأولى وتجسّد في مخيلته ذلك الحادث الّذي تعرّض له في طفولته..تذكّر سقوطه من فوق جدار الدّرج ،وتذكّر بكاءه والدماء تسيل من أنفه مناشداً أمّه الإسراع لنجدته؛ ولم تتوان الأم لحظة بل أسرعت إليه يلفّها ثوب الفزع..كان الغلام وحيدها وهو بالنسبة لها كل شئ..وهناك بالمشفى قام الطبيب بفحصه مع إجراء الإسعافات اللازمة له ثمّ وجّه حديثه للأم شارحاً لها حاجة الطفل لإجراء عملية بأنفه محذّراً إيّاها من أي إهمال وأنّ هذا من شأنه التأثير على حاسة الشم عند طفلها،وهنا تساءلت الأم في قلق: وهل من الضّروري إجراء هذه العمليّة على الفور..فأخبرها الطبيب أنّ تأخير العملية عام أو عامين لن يضر.مرّت الأيّام وتتابعت السنون ونسيت الأم أو قل تناست لخوفها على طفلها من ناحية ولعدم ظهور تأثير ذلك من ناحيةٍ أخرى؛ ومع الأيّام كبر الطّفل ولم يعد أنفه يلتقط شيئاً من الرّوائح المختلفة اللّهمّ إلّا رائحة شواء البطاطا والّتي يبدو أنّها حُفِرت في ذاكرته لموقف ما ارتبط بها..وبينما صلاح سابحاً في بحر ذكرياته والّتي حرّكت شجوناً في صدره حسبها ماتت من زمن وإذ بصوت البائع يعود به إلى الواقع : تفضّل يا أستاذ..نظر صلاح إلى البائع وعلى شفتيه ابتسامة حاول من خلالها إخفاء ما اعتمل في صدره من مشاعر، ومدّ إليه يده بالنقود ثمّ انصرف تاركاً خلفه تلك الرّائحة المميّزة وجزءاً من تاريخ طفولتهتأليف..أحمد سعيد

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"تسلسل أحداث النهاية"

"بحث علمي"

"دروس من غزوتي أُحد وحُنين"