"رسالة إلى أمي"

"رسالة إلى أمي"

إلى حبيبتي..صديقتي..قيثارتي
إلى أول من خفق لها فؤادي 
إلى من علمتني كيف أكون إنساناً
إلى أحب الناس..أغلى الناس..كل الناس
إلى أمي الحبيبة أخط رسالتي...!
لعل الدهشة أصابتك أيها القارئ اللبيب من كوني أخاطب شخصاً من العالم الآخر؛ ولكن حتماً سيزول اندهاشك حين تعلم أن هذا الشخص لم يفارقني لحظة منذ رحيله؛بل إنه يعيشُ في قلبي وعقلي ووجداني..وكيف لا؟! ؛ وهو عندي أغلى الناس بل كل الناس.
هذه الرسالة التي يخطها قلبي الآن كان موعدها منذُ أكثر من ثلاثين عاماً؛ ولكن الأديب لايرتبط بقانون الزمن فحيثما تفاعل قلبه ومشاعره فثمّ.
كانت جماعة تحفيظ القرآن الكريم بالمملكة العربية السعودية في حاجة إلى ثلاثين محفظاً للقرآن لتوزيعهم على مدن المملكة؛ لذلك أرسلت وفداً للتعاقد معهم وكنتُ واحداً من هؤلاء، ولأنني كنتُ حديث عهدٍ بزواج فقد أشفقت أمي على فراقي لزوجتي؛ ولكنني طمأنتها بأنني سوف أستقدمها لتعيش معي بالمملكة؛ هذا ولكوني كنتُ وحيد أبواي من الذكور لذا كان فراقي لأمي أشبه بالمستحيل.. 
حان موعد سفري ومن ثمَّ فراقي لأغلى شخصين:أمي وزوجتي؛ وقد اتفقنا على أن اتصل بهما لأطمئنهما عن أحوالي؛ ولم تكن الهواتف المنزلية حينذاك متوفرة ولكن لحسن الحظ كانت لأمي جارة لديها هاتف.
مضت بنا الأيام على اشواك الألم؛ انا اتجرع في مرارة كأسها، وفي أرض الكنانة أمي وزوجتي يترقبان في لهفة أخبار الحبيب الغائب..
اتصلت بهاتف جارتنا أكثر من مرة وكانت العادة أن أترك لجارتنا الفرصة لتخبر أمي أو بعض أفراد أسرتي،
وهكذا مضت بنا الأيام لانملك سوى اتصال هاتفي نرتشف منه بعض قطرات السعادة المفقودة؛ وفي إحدى الإتصالات طلبت مني أمي شراء بعض الأغراض التي يحتاجون إليها ومن بينها آلة حاسبة لإبن شقيقتي الكبرى
وبالفعل بعد حصولي على الراتب ابتعت كل ماطلبته وأنا في قمة السعادة؛ وأبلغتُ أمي بذلك ففرحت جداً ودعت لي بطول العمر وسعة الرزق.
كنتُ أعمل محفظاً في احد مساجد الخرج؛ وكان من بين طلابي جندي شرطة وقد أراد أن يكافئني فعرض علي مصاحبته لمكة لأداء عمرة في أواخر شهر رمضان وكان ذلك تحديداً يوم ٢٨ رمضان مما دعانا للمكوث بالحرم لنشهد صلاةَ عيد الفطر ؛ وقد علم بوجودي أحد الإخوة فدعاني لتناول الغداء معه فلبيت الدعوة؛ وحين وصلت لمنزله كان التعب قد بلغ بي مداه فاستسلمت لنومٍ عميق أنساني حتى أين أرقد وحينذاك رأيت رؤيا عجيبة اضطرب لها فؤادي؛ رأيت أن أمي ومعها الطفل سامح حفيدها؛ فمرت بي ومعي زوجتي فتركت لنا الطفل ومضت.....
صحوت من نومي وتأويل الرؤيا يطل برأسه ويفرض نفسه؛ وكان التأويل كالتالي:
زوجتي هي الدنيا والطفل هو الحزن؛ أي أن أمي سوف ترحل عن الدنيا وتترك لنا حزناً لفراقها؛ وحين وصلت لهذا التأويل انزعجت جداً فأسرعت للهاتف وكانت المفاجأة  أن أمي هي التي ردت علي وكانت تزور جارتنا بمناسبة العيد(١شوال)..هنأت أمي بالعيد وتحادثنا معاً وفي نهاية الحديث دعت لي وانصرفت،،،،وكان هذا الحديث آخر عهدي بها😪
بعد مضي عشرون يوماً اتصلت من جديد ولكن كان صوت شقيقتي الكبرى بديلاً عن صوت أمي فاستبد بي القلق حين علمت من شقيقتي بأن أمي مريضة وتراءى لي شبح تفسير الرؤيا من جديد فلم استطع الصبر أكثر من يومين فعاودت الإتصال فجاء صوت شقيقتي ضعيفاً حزيناً فسألتها عن أمي فقالت بصوت حزين:ارتاحت ياأحمد..وقفت صامتاً للحظات من هول الصدمة وسمعت شقيقتي وهي تناديني:أحمد.. أحمد مابك ياأخي فاستجمعت أشلاء نفسي المبعثرة وقلتُ لها:لاشئ.
انصرفت تحملني قدماي وسرتُ مترنحاً من الحزن والأسى، وندت عيناي فأبصرتُ الاشياءَ تتراقص حولي من خلال شعاع نور أصابه الوهن و شيئاً فشيئاً تحول المشهد من حولي إلى لوحة ضبابية باهته..
هذا ماحدث لي ياأمي بالضبط ؛فقد استبد بي الحزن على فراقك ولم تهدأ نفسي إلا حين شاركني بعض الإخوة في صلاة الغائب على روحك الطاهرة فوجدتُ السكينة تطوي حزني  وألمي برداء الرضا والتسليم لقضاء الله وقدره وجاءت خلاصة مشاعري في أبيات خطها قلبي بمداد الألم والعذاب واليأس والسراب؛ أجل يااأعز الناس فقد كان الموقف فوق احتمالي فلم أعتد على فراقك مذ تفتحت عيناي على نور الحياة فكيف يرضى فؤادي بحرماني من رؤيتك حتى توافيني المنية...😪
أمّاهُ بالأمسِ القريب
كنتِ السما لغايتي
جسرَ الحما لغربتي
صدرَ الحبيبِ للحبيب
ثغرَ السحابِ للعليل
عينَ الطريقِ للضرير
طفولتي..هل تذكرين؟!
ذكرى تطوفُ باللسان
أصغي فأغفو بالحنان
تهدهديني إن بكيت
تعانقيني إن شكوت 
أدنو بقلبي تائهاً
في بحر صمتي تسبحين
أدنو بنفسي حائراً
عن سرِّ ذاتي  تفهمين
ذاكَ الذي أخفيتهُ
من فيض حبّكِ تسكبين
يمضي رحيق فرحتي
يروي زهورَ جنتي

....عدتُ ياأمي إلى أرض الكنانة موطني حيث استقبلني أفراد الأسرة بأجنحة الحب والحنان والشفقة وبعد قليل جاءت زوجتي؛
بدأوا جميعهم يشرحون لي وقائع وفاتك ياأغلى الناس..
قالت زوجتي: كان يوم الخميس ٧شوال هو اليوم الأخير لتكمل الوالدة صيام الست من شوال وذلك اتباعاً لسنة الحبيب صلوات ربي وسلامه عليه؛ فقد كانت حريصة كل الحرص على أن تتم صيامها؛ ولقد مرت أحداث اليوم عادية شأنها شأن بقية الأيام؛ ولم يدر بخلدنا لحظة أن الأمر سيتطور هذا التطور السريع؛ وحين مضى من الليلِ مايقرب من ثلثيهِ سمعنا صوتاً قوياً  يوحي بارتطام جسم بالأرض يصدر من شقة الوالدة فأسرعنا إلى حيثُ مصدر الصوت وهو الحمام فوجدناه مغلقاً ولاأحد يرد فكسرنا الباب على الفور فإذ بجسم الوالدة مسجى على الأرض فقمنا بنقلها إلى غرفتها وظللنا بجوارها حتى أفاقت من غيبوبتها  وأول مانطقت به هو:هل صليت الوتر؟سبحانك ربي رغم كل ماتعانيه لم تنسي ركعة الوتر !
مضى الوقتُ بنا سريعاً وعبثاً حاولنا إطعامها أي شئ دون جدوى؛ واستمر الوضع حتى اقتربنا من موعد صلاة الجمعة فأشارت الوالدة إلى كوب ماء بجوارها فصارت تلمس الماء بأناملها وتبلل به شفتيها وهي تتمتم: اللهم هون علينا سكرات الموت؛
تستطرد زوجتي حديثها قائلة: لقد عقدت الدهشة لساني فهذه أول مرة أسمع فيها أحداً يقول هذا الدعاء فلم استطع فعل شئ؛ بدأ جسدها ينتفض بشدة وعيناها تتطلع لأعلى كأنها تشاهد شيئاً ما ومع قول المؤذن:أشهد أن لا إله إلا الله نطقت الوالدة الشهادتين وسط دهشتنا من هول الموقف ثم فارقت روحها الطاهرة جسدها وبقي الجسد مسجى بلا حراك.
هذه ياأمي قصة رحيلك عن دنيانا خطها قلبي لتعلمي قدر حبي الكبير لكِ وبأنني ماسلوتكِ لحظةمنذُ ذلك الوقت ؛ لازال صوتكِ يرن في أذني بكلمات الحكمة التي تعودتها منكِ ولازالت أفكارك النورانية تعيش في وجداني وتضئ لي سبل الحياة
ولازالت مواقفك الطيبة تمدني بالقوة وترسم لي علاقة حب فريدة بين أم وابنها الشاعر فقد كان تشجيعك لي المستمر على الكتابة والتأليف سبباً في المزيد والمزيد من التأليف؛ فطيبي نفساً ياأمي الحبيبة فمثلكِ كنزٌ ثمين لم نكتشف بعد سوى القليل وأقل القليل من درره
ابنك.احمد سعيد 
الأحد ١١_٧_٢٠٢٢













   
 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"الحبيب الحائر"

"الصف الأخير"

"معادن الناس"