"رداء الحزن
رداء الحزن"
منذ عهدٍ بعيد حدث هذا الموقف في حياة "أشرف"،والذي مازالت آثاره ترمي بظلالها في أغوار نفسه حتى الآن.كانت أمه قد عقدت عزمها على تزويج إبنتها الكبرى "ليلى" من أحد شباب العائلة ولم تكن الفتاة قد تخطت الإثنى عشر ربيعابعد؛ ورغم أنها كانت تتلقى تعليمها إلّا ان الأم رأت- ككثير من أقرانها في ذلك الوقت- أن زواج الفتاة خيرٌ لها من التعليم.كانت ليلى على حداثة سنّها على قدر من الجمال يغري الشباب للفوز بها، ورأت الأم في الشاب عصام والذي تربطه بالعائلة صلة قرابة أفضل من يحافظ عليها وينزلها قدرها،فراحت تحثه على التقدم لإبنتها، ولم يكن هذا الزواج يروق لأسرة عم ليلى إذ أنّها كانت تطمع هي الأخرى في تزويج إبنتهم لإبن الخال "عصام"،وبسبب ذلك نشأ صراع بين الأسرتين للفوز بالشاب، وانحاز والد عصام لإبنة شقيقته فعارض بشدة زواج نجله من ليلى وقد إستخدم للتعبير عن إعتراضه كل الأساليب المشروعة والغير مشروعةلمنع هذا الزواج..وفي هذه الأجواء المشحونة بالصراعات الأسرية قررت أم أشرف السفر لمسقط رأسها حيثُ تقيم أسرتها وذلك كي تستعين بكبار أفراد عائلتها لإجتياز تلك العقبة.وإنطلقت في اليوم التالي مصطحبة معها طفلها أشرف والذي لم يتجاوز السابعة من عمره ،ويبدو أنّ الرحلة لم تفِ بالغرض المنشود إذ أنّها قررت فجأة العودة .وحيثُ كان ثمة فسحة من الوقت قبل موعد تحرك القطار قررت الأم على أثر ذلك ان تقضيها مع إبنها في الحديقة الملحقة بمحطة القطار؛ولاينسى الطفل هذه اللحظات من حياته حيثُ مضت أمّه نحو الحديقة بخطيٍ متثاقلةوالحزن يكسو وجهها النحيل وعلامات الأسى تبدو شاحبة خلف عينيها الحزينتين؛ وهاله هذا المشهد وأثّر في نفسه أيما تأثير فقد كان الطفل على حداثة سنّه يطوي بين جوانحه قلباً نابضاً وشعوراً فيّاضاً يتأثر بكلًِ شاردة وواردة. هاله هذا المشهد وكيف لا! وقد كانت الأم تعني له الحياة بكلِّ معانيها؛واستشعر في هذه اللحظات بضعف نفسه وساءه ألّا يستطيع أن يمد لها يد العون أو حتّى يجد من الكلمات الدافئة مايخفف عنها ماألَمَّ بها من ألم، وأبصر فجأة عَبَرات الأسى تتسلل في صمت من عينيها وكأنّ الحزن قد أبى أن يظل حبيس صدرها فخرج على إستحياء ليعلن حقيقة الضعف البشري.لم يتمالك الطفل نفسه وهو يرى أمّه في هذا المشهد البائس، وراعهُ وهو في هذه السن المبكرة أن يرى بعينيه طيف الضعف البشري يتجسّد فجأة في قدوته وأسوته..إذ أن الطفل في العادة يشعر ان الملاذ الآمن من حوادث الأيام و تقلبات الدهر هو صدر أمّهِ الدافئ.لذا شعر بحزنٍ جارف يعتصر قلبه ووجد صدره يضيقُ شيئاً فشيئاً؛ ولاحت له الأنوار من حوله تتمايل شاحبة كأنّها أشباح موتى خرجت تواً من قبورها؛ وتحوّل الكون على سعته إلى ركنٍ صغير ضمّهُ وأمّه برداءٍ من الحزن لايزال يشعر ببرد أنامله.
تأليف..أحمد سعيدقنديل
تعليقات
إرسال تعليق