حرارة موقف

"حرارة موقف"
كثيراً مايواجه الإنسان موقفاً يكون له تأثير خاص على مشاعره وتفكيره؛ فيقف أمامه متأملاً متحيراً كيف يتعامل مع هذا الموقف؟!..ولقد ساقتني الأقدار إلى موقف من هذا النوع؛ وكان ذلك عقب صلاة فجر أحد الأيام حيث كان ولدي الأوسط يمضي معنا أجازة منحتها إياه وحدته العسكرية.
حدث هذا الموقف قدراً ودون ترتيب لأحداثه؛ ففي هذا اليوم وعقب عودتي من المسجد جلست في صالة المنزل ومن ثمَّ شرعت في ممارسة هوايتي المفضلة  في القراءة ومطالعة الأحداث؛ وبعد فترة تركتُ مايشغلني وتوجهتُ صوب الشرفة تدفعني رغبة في استنشاق نسائم الصباح ؛ وحين دنوت منها راعني المشهد؛ إذ وجدتُ ولدي يقف في الشرفة متطلعاً إلى السماء وفي إحدى يديه لفافة تبغ ينفث منها دخاناً ؛ راعني ما أرى فوقفتُ مشدوهاً برهة لم يشعر خلالها ولدي بوجودي ثم عدتُ أدراجي فدلفتُ إلى غرفتي في هدوء.
جلستُ أفكر!....ماذا أفعل جرّاء هذا الموقف؟!...كنتُ على علم بأن أبنائي الثلاثة قد أصابهم هذا البلاء المشئوم؛ وكان ذلك يدفعني أن أكثف لهم الدعاء بأن يقلعوا عن هذه العادة الخبيثة ولكن ! لم يدرْ  بخلدي لحظة أن يجرؤ أحدهم على فعل ذلك بالمنزل؛ نعم وجدتني أفتش في ذهني عن أصوب تصرف يمكنني فعله حيال هذا الأمر؛ وفي النهاية هداني تفكيري أن أخط لولدي رسالة عتاب يغلفها حزنُ أبٍ طوى مشاعره ثوبُ الألم....
.. ولدي الحبيب..أخطُ إليك رسالتي والقلبُ يعتصر ألماً ؛ فلقد صُدمتُ بشدة حين رأيتك في الشرفة وفي إحدى يديك سيجار.
لم اتلصص عليك وإنما جاء الأمر قدراً ليضعني وإيّاكَ في موقفٍ صعب....لقد ضربتَ يا عزيزي بفعلك هذا برَّكَ بأبيك عُرضَ الحائط ، بل وخنتَ ثقتي في شخصك لأنك ظننتَ أنني أغطُّ في النوم ففعلت ماأصابني في مقتل!
لقد تخيلتك دوماً شخصية عظيمة ؛ شخصية تقود ولاتنقاد، تؤثر بالخير ولاتتأثر بالحماقات؛ أجل شخصية تسعى لإرضاء خالقها وكسب رضا والديها وقد وضعت نصب عينيها هدفاً نبيلاً وهو تحقيق النجاح والتفوق في الحياة العلمية والعملية...!
فإذ بي أراك مع الأسف مشدوداً لحقيرة تستعبد من يألفها ولقد كنتُ قرأتُ فتوى تحكم بأن التدخين أشد حرمة من الخمر وذلك استناداً إلى أن ضرره متعدٍ للغير؛ فكيف بي أراك وقد تدنيتَ في مستنقع وحلها الخبيث..فإلى الله أشكو بثي وحزني والسلام.
وعلى غير المتوقع جاءني الرد في كلمات كساها الحزن وغلفها ثوب الأسف والندم....
والدي الحبيب..
قرأتُ رسالتكم الموقرة لا أقول بعيني رأسي بل بعيني الخزي والإنكسار ؛ قرأتها والقلب يعتصر ألماً والعين تسكبُ أدمعَ الخزلانِ ؛ فلطالما كنتُ دوماً محل ثقتكم ومتكئكم في الحياة ؛ ولاأخفي على حضرتك مدى حزني وأسفي من جرّاء هذا البلاء؛ فحين ألقي نظرة على نفسى أرى شخصاً يدخن لفافة من التبغ لا تسمن ولا تغني من جوع وقد دفعته دفعاً إلى حافة الهاوية فيخيل إلي حينها وكأنني أنظر إلي نفسي المتقلبة والتي هي مزيج من الشفقةِ والاحتقار؛ هي هي نفس النظرة التي انظرها لكل مدخن؛ فأمكث ماشاء الله أن امكث تأتيني تلك الغمامة الكئيبة من ظلم المعصية وأثرها على القلب.
أما وقد قرأتُ رسالتكم الموقرة لي وأدركتُ ما فيها واستشعرتُ فحواها والتي جاءت كسهم رمتني به نكبات الحياة؛ فإنني أعاهدكم ألا يدخل جوفي شيئاً مما حرَّمه  الله.
واسمح لي أبي الحبيب أن آتي بين يديك كي أجثو عند قدميك راجياً  رضاك عني ملتمساً دعاءك لي بالثبات حتى الممات.........ابنك التائب
..وبعدُ عزيزي القارئ..فهذا هو الموقف والذي أشرتُ إليه في المقدمة وماصاحبه من حرارة مشاعر أبٍ شفيق بأبنائه وفلذة كبده وقد تلاقت مع مشاعر ولده الحبيب ؛وها أنا أسوقه عسى أن يكون درساً يستفيد منه كلُّ أبٍ وكلُّ ابن فتكون هذه التجربة عوناً لهما في معالجة  المواقف الحساسة وأختم بقول الشاعر:
أولادُنا أكبادُنا تمشي على الأرضِ

بقلم..أحمد سعيد

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"تسلسل أحداث النهاية"

"بحث علمي"

"دروس من غزوتي أُحد وحُنين"